فصل: ولاية الليث بن الفضل على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 ولاية الليث بن الفضل على مصر

هو الليث بن الفضل الأبيوردي أمير مصر أصله من أبيورد ولاه الرشيد على إمرة مصر على الصلاة والخراج معًا في شهر رمضان في سنة ثلاث وثمانين ومائة بعد عزل إسماعيل بن عيسى وقدم إلى مصر لخمس خلون من شوال من السنة المذكورة وسكن العسكر وجعل أخاه علي بن الفضل على الشرطة ومهد أمور مصر واستوفى الخراج ودام على ذلك إلى أن خرج من مصر وتوجه إلى الخليفة هارون الرشيد في سابع شهر رمضان سنة أربع وثمانين ومائة بالهدايا والتحف واستخلف أخاه علي بن الفضل على صلاة مصر فوفد على الرشيد وأقام عنده مدة ثم عاد إلى مصر على عمله في آخر السنة واستمر على إمرة مصر إلى أن خرج منها ثانيًا إلى الرشيد في اليوم الحادي والعشرين من رمضان سنة خمس وثمانين ومائة‏.‏

واستخلف على صلاة مصر هشام بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج فتوجه إلى الرشيد لأمر اقتضى ذلك ثم عاد إلى مصر في رابع عشر المحرم سنة ست وثمانين ومائة وكان هذا دأبه كلما غلق خراج سنة ونجز حسابها وفرق أرزاق الجند أخذ ما بقي وتوجه به إلى الرشيد ومعه حساب السنة‏.‏

ودام على ذلك إلى أن خرج عليه أهل الحوف بشرقي مصر وساروا إلى الفسطاط فخرج إليهم الليث هذا في أربعة آلاف من جند مصر وكان ذلك في الثامن والعشرين من شعبان من سنة ست وثمانين ومائة المذكورة واستخلف على مصر عبد الرحمن بن موسى بن علي بن رباح على الصلاة والخراج فواقع أهل الحوف فانهزم - عنه الجند وبقي هو في نحو المائتين من أصحابه فحمل بهم على أهل الحوف حملة هزمهم فيها فتولوا وتبع أقفيتهم فقتل منهم خلقًا كثيرًا وبعث إلى مصر بثمانين رأسًا‏.‏

ثم قدم إلى مصر فلم ينتج أمره بعد ذلك من خوف أهل الحوف منه فخافوه ومنعوا الخراج فلم يجد الليث بدًا من خروجه إلى الرشيد فتوجه إليه وعرفه الحال وشكا له من منع الخراج وسأله أن يبعث معه جيشًا إلى مصر فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش فلم يسمح له الرشيد بذلك وأرسل محفوظًا إلى مصر فقدم إليها محفوظ المذكور وضم خراجها من غير سوط ولا عصا فولاه الرشيد عوضه على خراج مصر ثم عزل الليث عن إمرة مصر بأحمد بن إسماعيل في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين ومائة فكانت ولاية الليث على مصر أربع سنين وسبعة أشهر ولنذكر أمر البرامكة هنا وإن كان ذلك غير ما نحن بصدده غير أنه في الجملة خبر يشتاقه الشخص فنقول على سبيل الاختصار من عدة أقاويل‏:‏ كان من جملة أسباب القبض على جعفر أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي فقال لجعفر‏:‏ أزوجها لك ليحل لك النظر إليها ولا تقربها فقال‏:‏ نعم فزوجها منه وكانا يحضران معه ويقوم الرشيد عنهما فجامعها جعفر فحملت منه وولدت غلامًا فخافت الرشيد فسيرت الولد مع حواضن إلى مكة‏.‏

ثم وقع بين العباسة وبعض جواريها ‏"‏ شر ‏"‏ فأنهت الجارية أمرها إلى الرشيد وقيل‏:‏ الذي أنهته زبيدة لبغضها لجعفر‏.‏

وقيل في قتله سبب آخر وهو أن الرشيد دفع إليه عدوه يحيى بن عبد الله العلوي فحبسه جعفر ثم دعا به وسأله عن أمره فقال له‏:‏ اتق الله في أمري فرق له جعفر وأطلقه ووجه معه من أوصله إلى بلده فنم على جعفر الفضل بن الربيع إلى الرشيد وأعلمه القصة من عين كانت للفضل على جعفر فطلب الرشيد جعفرًا على الطعام وصار يلقمه ويحدثه عن يحيى بن عبد الله وجعفر يقول‏:‏ هو بحاله في الحبس فقال‏:‏ بحياتي ففطن جعفر وقال‏:‏ لا وحياتك وقص عليه أمره فقال الرشيد‏:‏ نعم ما فعلت‏!‏ ما عدوت ما في نفسي‏!‏ فلما قام عنه قال‏:‏ قتلني الله إن لم أقتلك‏.‏

وقيل غير ذلك وهو أن جعفرًا ابتنى دارًا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم فقيل للرشيد‏:‏ هذه غرامته على دار فما ظنك بنفقاته‏!‏ وقيل‏:‏ إن يحيى بن خالد لما حج تعلق بأستار الكعبة وقال‏:‏ اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك فاسلبني اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني إلا الفضل ثم عاد واستثنى الفضل ثم دعا يحيى بن خالد بدعوات أخر وكان الفضل عنده مقدمًا على جعفر فإنه كان الأسن فلما انصرف من الحج هو و أولاده ووصلوا إلى الأنبار نكبهم الرشيد ولما أرسل للقبض على جعفر توجه إليه مسرور ومعه جماعة وجعفر في لهوه ومغنيه يغنيه قوله‏:‏ ‏"‏ الوافر ‏"‏ فلا تبعد فكل فتى سيأتي عليه الموت يطرق أو يغادي وكل ذخيرة لابد يومًا وإن كرمت تصير إلى نفاد ولو يفدى من الحدثان شيء فديتك بالطريف وبالتلاد قال مسرور‏:‏ فقلت له‏:‏ يا جعفر الذي جئت له هو والله ذاك قد طرقك فأجب أمير المؤمنين فوقع على رجلي يقبلها وقال‏:‏ حتى أدخل وأوصي‏!‏ فقلت‏:‏ أما الدخول فلا سبيل إليه وأما الوصية فاصنع ما شئت فأوصى وأتيت الرشيد به فقال‏:‏ ائتني برأسه فأتيته به‏.‏

السنة الأولى من ولاية الليث وهي سنة أربع وثمانين ومائة‏.‏

فيها ولى الرشيد حمادًا البربري إمرة مكة واليمن كله وولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند وولى ابن الأغلب المغرب وولى مهرويه الرازي طبرستان‏.‏

وفيها طلب أبو الخصيب الخارج بخراسان الأمان فأمنه علي بن عيسى بن ماهان وأكرمه‏.‏

وفيها سار أحمد بن هارون الشيباني فأغار على ممالك الروم فغنم وسلم‏.‏

وفيها توفي أحمد ابن الخليفة هارون الرشيد الشاب الصالح كان قد ترك الدنيا وخرج على وجهه وتزهد وصار يعمل بالأجرة ولا يعلم به أحد وكان أكبر أولاد الرشيد وأمه أم ولد ولم يزل أحمد هذا منقطعا إلى الله تعالى حتى مات ولم يعلم به أحد وكان أحمد هذا يعرف بالسبتي وأحمد هذا خفي عن كثير من الناس ومن الناس من يظنه البهلول الصالح ويقول‏:‏ البهلول كان ابن الرشيد وليس هو كذلك وقد تقدم ذكر البهلول‏.‏

وأحمد هذا هو ابن الرشيد وله أيضًا حكايات كثيرة في الزهد والصلاح‏.‏

على أن بعض أهل التاريخ ينكرون ذلك بالكلية والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏

وفيها توفي محمد بن يوسف بن معدان أب وعبد الله الأصبهاني كان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد وكان له كرامات وأحوال‏.‏

وفيها توفي المعافى بن عمران أبو مسعود الموصلي الأزدي رحل البلاد في طلب الحديث وجالس العلماء وجمع بين العلم والورع والسخاء والزهد ولزم سفيان الثوري وتفقه به وتأدب بآدابه فكان يقول له‏:‏ أنت معافى كاسمك‏.‏

الذين ذكرهم الذهبي في الوفيات في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي إبراهيم بن سعد الزهري في قول‏.‏

وإبراهيم بن أبي يحيى المدني وحميد بن الأسود وصدقة بن خالد في قول وعبد الله بن عبد العزيز الزاهد العمري وعبد الله بن مصعب الزبيري وعبد الرحيم بن سليمان الرازي وعثمان بن عبد الرحمن الجمحي في قول وعبد السلام بن شعيب بن الحبحاب وعبد العزيز بن أبي حازم في قول وعلي بن غراب القاضي ومحمد بن يوسف الأصبهاني الزاهد ومروان بن شجاع الجزري ويوسف بن الماجشون قاله البخاري وأبو أمية بن يعلى ‏"‏ الثقفي ‏"‏ قاله خليفة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وأربعة أصابع‏.‏

السنة الثانية من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة خمس وثمانين ومائة‏.‏

فيها وثب أهل طبرستان على متوليهم مهرويه ‏"‏ الرازي ‏"‏ فقتلوه فولى عوضه الرشيد عبد الله بن سعيد الحرشي‏.‏

وفيها وقعت بالمسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين‏.‏

وفيها خرج الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل والجزيرة‏.‏

وفيها حج بالناس أخو الخليفة منصور بن المهدي وكان يحيى بن خالد البرمكي استأذن الرشيد في العمرة فخرج يحيى بن خالد في شعبان وأقام بمكة واعتمر في شهر رمضان وخرج إلى جدة فأقام بها على نية الرباط إلى زمن الحج فحج وعاد إلى العراق‏.‏

وفيها توفي عم جد الرشيد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو محمد الهاشمي العباسي ولد سنة خمس أو ست ومائة وأمه أم ولد ويقال‏:‏ إن أمه كثيرة التي شبب بها عبد الله بن قيس الرقيات‏.‏

ولي عبد الصمد هذا إمرة دمشق والموسم غير مرة وولي إمرة المدينة والبصرة‏.‏

واجتمع مرة بالرشيد وعنده جماعة من أقاربه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعمه وعم عمه وعم عم عمه وكان في المجلس سليمان بن أبي جعفر المنصور وهو عم الرشيد والعباس بن محمد وهو عم سليمان المذكور وعبد الصمد هذا وهو عم العباس‏.‏

ومات وليس بوجه الأرض عباسية إلا وهو محرم لها رحمه الله‏.‏

وفيها توفي محمد ابن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أب وعبد الله الهاشمي العباسي‏.‏

ولي إمرة دمشق لأبي جعفر المنصور ولولده المهدي وحج بالناس عدة سنين وكان عاقلًا جوادًا ممدحًا‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو إسحاق الفزاري - في قول - إبراهيم بن محمد وخالد بن يزيد بن ‏"‏ عبد الرحمن بن ‏"‏ أبي مالك الدمشقي وصالح بن عمر الواسطي وعبد الله بن صالح بن علي بسلمية وعبد الواحد بن مسلم وقاضي مصر محمد بن مسروق الكندي والمسيب بن شريك والمطلب بن زياد ويزيد بن مزيد الشيباني ويقطين بن موسى الأمير‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وسبعة أصابع‏.‏

السنة الثالثة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة ست وثمانين ومائة‏.‏

فيها حج الرشيد ومعه ابناه‏:‏ الأمين محمد والمأمون عبد الله وفرق بالحرمين الأموال‏.‏

وفيها بايع الرشيد بولاية العهد لولده قاسم بعد الأخوين الأمين والمأمون ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي فلما قسم الرشيد الدنيا بين أولاده الثلاثة قال الشعراء في البيعة المدائح ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي‏:‏ ‏"‏ مجزوء الكامل ‏"‏ خير الأمور مغبة وأحق أمر بالتمام أمر قضى إحكامه ال - - رحمن في البيت الحرام وفيها أيضًا سار علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب فالتقاه فقتل أبو الخصيب وغرقت جيوشه وسبيت حرمه واستقام أمر خراسان‏.‏

وفيها سجن الرشيد ثمامة بن الأشرس المتكلم لأنه وقف منه على شيء من إعانة أحمد بن عيسى ‏"‏ بن زيد ‏"‏‏.‏

وفيها توفي حماد - ويقال‏:‏ سلم - بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر المعروف بسلم الخاسر الشاعر المشهور من أهل البصرة سمي الخاسر لأ نه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورًا وقيل‏:‏ اشترى شعر امرىء القيس وقيل شعر الأعشى‏.‏

وكان سلم من الشعراء المجيدين وهو من تلامذة بشار بن برد المقدم ذكره‏.‏

وفيها توفي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو الفضل الهاشمي العباسي أخو السفاح والمنصور لأبيهما وأمه أم ولد‏.‏

ولد في سنة ثمان عشرة ومائة وقيل سنة إحدى وعشرين ومائة وولي دمشق والشأم كله والجزيرة وحج بالناس غير مرة‏.‏

وكان الرشيد يجله ويحبه‏.‏

وفيها توفي يزيد بن هارون أبو خالد مولى بني سليم ولد سنة ثمان عشرة ومائة وكان من الزهاد العباد كان إذا صلى العتمة لا يزال قائمًا حتى يصلي الفجر بذلك الوضوء نيفًا وأربعين سنة‏.‏

وفيها توفي الأمير يقطين بن موسى أحد دعاة بني العباس ومن قرر أمرهم في الممالك والأقطار وكان داهيةً عالمًا حازمًا شجاعًا عارفًا بالحروب والوقائع‏.‏

ذكر الذين أثبت الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي حاتم بن إسماعيل - أو سنة سبع - والحارث بن عبيدة الحمصي وحسان بن إبراهيم الكرماني وخالد بن الحارث وصالح بن قدامة الجمحي وطيفور الأمير مولى المنصور والعباد بن العوام في قول والعباس بن الفضل المقرىء وعبد الرحمن بن عبد الله بن عمر المدني وعيسى البخاري غنجار والمسيب بن شريك بخلف والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ السنة الرابعة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة سبع وثمانين ومائة‏.‏

فيها أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفرًا ثم صلبه مدة وقطعت أعضاؤه وعلقت بأماكن ثم بعد مدة أنزلت وأحرقت وذلك في صفر وحبس الرشيد يحيى ابن خالد بن برمك أعني والد جعفر المذكور وجميع أولده وأحيط بجميع أموالهم‏.‏

وطال حبس يحيى بن خالد المذكور وابنه الفضل إلى أن ماتا في الحبس‏.‏

وفي سبب قتل جعفر البرمكي اختلاف كبير ليس لذكره هنا محل‏.‏

وفيها غزا الرشيد بلاد الروم وفتح هرقلة وولى ابنه القاسم الصائفة وأعطاه العواصم فنازل حصن سنان فبعث إليه قيصر وسأله أن يرحل عنه ويعطيه ثلاثمائة وعشرين أسيرًا من المسلمين ففعل‏.‏

وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك‏.‏

وسبب قتله أنه كان يبكي على قتل جعفر وما وقع للبرامكة فكان إذا أخذ منه الشراب يقول لغلامه‏:‏ هات سيفي فيسله ويصيح‏:‏ واجعفراه‏!‏ ثم يقول‏:‏ والله لآخذن ثأرك ولأقتلن قاتلك‏!‏‏.‏

فنم عليه ابنه عثمان للفضل بن الربيع فأخبر الفضل الرشيد فكان ذلك سبب قتله‏.‏

وفيها توفي الفضيل بن عياض الإمام الجليل أبو علي التميمي اليربوعي‏.‏

ولد بخراسان بكورة أبيورد وقدم الكوفة وهو كبير فسمع الحديث من منصور وغيره ثم تعبد وتوجه إلى مكة وأقام بها إلى أن مات في يوم عاشوراء قاله علي بن المديني وغيره‏.‏

وكان ثقةً نبيلًا فاضلًا عابدًا زاهدًا كثير الحديث‏.‏

وقيل‏:‏ إن مولده بسمرقند‏.‏

وذكر بإسناده عن الفضل بن موسى قال‏:‏ كان الفضيل بن عياض شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس‏.‏

وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع رجلًا يتلو‏:‏ ‏"‏ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ‏"‏ فقال‏:‏ يا رب قد آن فرجع قآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة فقال بعضهم‏:‏ نرتحل وقال قوم‏:‏ حتى نصبح فإن فضيلًا على الطريق ‏"‏ يقطع علينا ‏"‏‏.‏

وقيل في توبته غير ذلك‏.‏

وأما مناقبه فكثيرة‏:‏ منها عن بشر الحافي قال‏:‏ كنت بمكة مع الفضيل فجلس معنا إلى نصف الليل ثم قام يطوف إلى الصبح فقلت‏:‏ يا أبا علي ألا تنام‏.‏

فقال‏:‏ ويحك‏!‏ وهل أحد يسمع بذكر النار وتطيب نفسه أن ينام‏!‏‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل فقال الفضيل‏:‏ تشكو من يرحمك إلى من لايرحمك‏!‏‏.‏

وسئل الفضيل‏:‏ ما الإخلاص قال الفضيل‏:‏ أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهذا الإخلاص‏.‏

وعن الفضيل قال‏:‏ من ساء شان دينه وحسبه ومروءته‏.‏

وعنه قال‏:‏ لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على نفسه ودينه‏.‏

وقال‏:‏ خصلتان تقسيان القلب‏:‏ كثرة الكلام وكثرة الأكل‏.‏

وعنه قال‏:‏ إذا أراد الله أن يتحف العبد سلط عليه من يظلمه‏.‏

واجتمع مع الرشيد بمكة فقال له الرشيد‏:‏ إنما دعوناك لتحدثنا بشيء وتعظنا قال‏:‏ فأقبلت عليه وقلت‏:‏ يا حسن الخلق والوجه حساب الخلق كلهم عليك قال‏:‏ فبكى الرشيد وشهق فرددت عليه حتى جاء الخدام فحملوني وأخرجوني‏.‏

وعنه قال‏:‏ الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحًا فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ قول العبد أستغفر الله يعني أقلني يا رب‏.‏

قلت‏:‏ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أتعجب ممن يهلك ومعه النجاة قيل‏:‏ وما هو قال‏:‏ الاستغفار‏.‏

وقال بعض المشايخ في دعائه‏:‏ اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو الاستغفار والإيمان وعصيت الشيطان في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفر لي ما بينهما‏.‏

وكان بعض المشايخ يقول أيضا‏:‏ اللهم إن حسناتي من عطائك وسيئاتي من قضائك فجد بما أعطيت على ما به قضيت حتى يمحى ذلك بذلك‏.‏

وفيها قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك‏.‏

قتله الرشيد لأمر اقتضى ذلك واختلف الناس في سبب قتله اختلافًا كبيرًا يضيق هذا المحل عن ذكره‏.‏

وكان قتله في أول صفر من هذه السنة وصلبه على الجسر وسنه سبع وثلاثون سنة وقتل بعده جماعة كثيرة من أقاربه البرامكة‏.‏

وكان أصله من الفرس وكان جعفر جميلًا لسنًا أديبًا بليغًا عالمًا يضرب بجوده الأمثال إلا أنه كان مسرفا على نفسه غارقا في اللذات تمكن من الرشيد حتى بلغ من الجاه والرفعة ما لم ينله أحد قبله وولي هو وأبوه وأخوه الفضل الأعمال الجليلة‏.‏

وكان أبوه يحيى قد ضم جعفرًا إلى القاضي أبي يوسف يعقوب حتى علمه وفقهه وصار نادرة عصره‏.‏

يقال‏:‏ إنه وقع في ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع ونظر في جميعها فلم يخرج شيئًا منها عن موجب الفقه والعربية‏.‏

وكان جعفر مثل أخيه الفضل في السخاء وأعظم‏.‏

وأما ما حكي من كرمه فكثير‏:‏ من ذلك أن أبا علقمة الثقفي صاحب ‏"‏ الغريب ‏"‏ كان عند جعفر في مجلسه فأقبلت إليه خنفساء فقال أبوعلقمة‏:‏ أليس يقال‏:‏ إن الخنفساء إذا أقبلت إلى رجل أصاب خيرا قالوا‏:‏ بلى ث فقال جعفر‏:‏ يا غلام أعط الشيخ ألف دينار ثم نحوها عنه فأقبلت الخنفساء ثانيًا فقال‏:‏ يا غلام أعطه ألفًا أخرى‏.‏

وله من هذا أشياء كثيرة ثم زالت عنه وعن أهله تلك النعم حتى احتاجت أمه إلى السؤال‏.‏

قال الذهبي عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال‏:‏ دخلت على أمي يوم النحر وعندها امرأة في أثواب رثة فقالت لي أمي‏:‏ أتعرف هذه قلت‏:‏ لا قالت‏:‏ هذه عبادة أم جعفر البرمكي فسلمت عليها ورحبت بها ثم قلت‏:‏ يا فلانة حدثينا بعض أمركم قالت‏:‏ أذكر لك جملة فيها عبرة لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة جارية ونحرت في بيتي خاصة ثمانمائة رأس وأنا أزعم أن ابني جعفرًا عاق لي وقد أتيتكم الآن يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعارًا والآخر دثارًا‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعًا واصبعان‏.‏

ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر هو أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو العباس الهاشمي العباسي أمير مصر‏.‏

ولاه الرشيد على صلاة مصر بعد عزل الليث بن الفضل عنها في سنة سبع وثمانين ومائة فقدمها يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وسكن العسكر على عادة أمراء بني العباس وجعل على شرطته معاوية بن صرد‏.‏

وفي ولايته استنجده إبراهيم بن الأغلب وكان سبب هذه التجريدة أن أهل طرابلس الغرب كان كثر شغبهم على ولاتهم وكان إبراهيم بن الأغلب المذكور قد استعمل عدة ولاة فكانوا يشكون من ولاتهم فيعزلهم ويولي غيرهم إلى أن استعمل عليهم سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه فأخرجوه من داره فدخل الجامع وقاتلهم فيه فقتلوا من أصحابه جماعة ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان ‏"‏ من هذه السنة ‏"‏ وكانت ولايته سبعًا وعشرين يوما واستعمل جند طرابلس عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي‏.‏

ثم وقع أيضًا بين الأبناء بطرابلس وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فاستنجد أحمد بن إسماعيل أمير مصر وجمع جمعًا كبيرًا وأمرهم أن يحضروا بني أبي كنانة والأبناء وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان فلما قدموا عليه أراد قتلهم الجميع فسألوه العفو عنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم وعادوا إلى بلادهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق بالطاعة‏.‏

واستمر أحمد هذا على إمرة مصر إلى أن صرف عنها بعبد الله بن محمد العباسي في يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع وثمانين ومائة فكانت ولايته على إمرة مصر سنتين وشهرًا ونصف شهر‏.‏

بن إسماعيل على مصر وهي سنة ثمان وثمانين ومائة‏.‏

فيها غزا المسلمون الصائفة فبرز إليهم نقفور بجموعه فالتقوا فجرح نقفور ثلاث جراحات وانهزم هو وأصحابه بعد أن قتل من الروم مقتلة عظيمة فقيل‏:‏ إن القتلى بلغت أربعين ألفًا وقيل‏:‏ أربعة آلاف وسبعمائة‏.‏

وفيها حج الرشيد بالناس وهي آخر حجة حجها وكان الفضيل بن عياض قال له‏:‏ استكثر من زيارة هذا البيت فإنه لا يحجه خليفة بعدك‏.‏

وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري كان إمامًا عالمًا صاحب سنة وغزو وكان صاحب حال ولسان وكرامات‏.‏

قال الفضيل بن عياض‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وإلى جانبه فرجة فذهبت لأجلس فيها فقال‏:‏ هذا مجلس أبي إسحاق الفزارفي‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن ماهان بن بهمن أبو إسحاق الأرجاني النديم المعروف بالموصلي أصله من الفرس ودخل إلى العراق ثم رحل إلى البلاد في طلب الأغاني فبرع فيها بالعربية والعجمية وكان مع ما انتهى إليه من الرياسة في الغناء فاضلًا عالمًا أديبًا شاعرًا نادم جماعة من خلفاء بني العباس وكان ذا مال يقال‏:‏ إنه لما مات وجد له أربعة وعشرون ألف ألف درهم وهو والد إسحاق النديم المغني أيضًا‏.‏

حكي أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة فغاضبها ودام على ذلك مدة فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئًا فعمل أبياتًا وألقاها إلى إبراهيم الموصلي هذا فغنى بها الرشيد فلما سمعها بادر إلى ماردة فترضاها فسألته عن السبب فقيل لها فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم ثم سألت الرشيد أن يكافئهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم‏.‏

والأبيات‏:‏ ‏"‏ الكا مل ‏"‏ # العاشقان كلاهما متجنب وكلاهما متبعد متغضب صدت مغاضبة وصد مغاضبًا وكلاهما مما يعالج متعب راجع أحبتك الذين هجرتهم إن المتيم قلما يتجنب إن التجنب إن تطاول منكما دب السلو له فعز المطلب الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي إسحاق بن مسور المرادي المصري وجرير بن عبد الحميد الضبي والحسين بن الحسن البصري وسليم بن عيسى المقرىء وعبد الملك بن ميسرة الصدفي وعبدة بن سليمان الكوفي وعتاب بن بشير الحراني بخلف وعقبة بن خالد السكوني وعمر بن أيوب الموصلي وعيسى بن يونس السبيعي ومحمد بن يزيد الواسطي ومعروف بن حسان الضبي ومهران بن أبي عمر الرازي ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وعشرة أصابع‏.‏

السنة الثانية من ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر وهي سنة تسع وثمانين ومائة‏.‏

فيها سار الرشيد إلى الري بسبب شكوى أهل خراسان عاملهم علي بن عيسى بن ماهان فقد رموه بعظائم وذكروا أنه على نية الخروج عن طاعة الرشيد فأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى وافاه ابن عيسى بالأموال والجواهر والتحف للخليفة ولكبار القواد حتى رضي عنه الرشيد ورده إلى عمله وخرج مشيعا له لما خرج إلى خراسان‏.‏

قلت‏:‏ لله در القائل في هذا المعنى‏:‏ ‏"‏ مخلع البسيط ‏"‏ بعثت في حاجتي رسولا يكنى أبا درهم فتمت وفيها كان الفداء حتى لم يبق بممالك الروم في الأسر مسلم‏.‏

وفيها توفي العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة أبوالفضل الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء في عصره أصله من غرب خراسان ونشأ ببغداد وقال الشعر الفائق وكان معظم شعره في الغزل والمديح وله أخبار مع الخلفاء وكان حلو المحاضرة مقبولًا عند الخاص والعام وهو شاعر الرشيد وخال إبراهيم بن العباس الصولي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وحكى عمر بن شبة قال‏:‏ مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرح فصفوا بين يديه فقال‏:‏ من هذا الأول‏.‏

فقالوا‏:‏ إبراهيم الموصلي فقال‏:‏ أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلى عليه فلما فرغ دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال‏:‏ يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر‏!‏ فقال‏:‏ لقوله‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ وسعى بها ناس وقالوا إنها لهي التي تشقى بها وتكابد فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم إني ليعجبني المحب الجاحد قلت‏:‏ وفي موت الكسائي منصورين الموصلي والعباس بن الأحنف في يوم واحد نظر والصحيح أن وفاة العباس هذا تأخرت عن وفاة هؤلاء المذكورين بمدة طويلة‏.‏

ومما يدل على ذلك ما حكاه المسعودي في تاريخه عن جماعة من أهل البصرة قالوا‏:‏ خرجنا نريد الحج فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف ينادي الناس‏:‏ هل فيكم أحد من أهل البصرة قالوا‏:‏ فعدلنا إليه وقلنا‏:‏ ما تريد قال‏:‏ إن مولاي ‏"‏ لما به ‏"‏ يريد أن يوصيكم قالوا‏:‏ فملنا معه وإذا شخص ملقى تحت شجرة لا يحير جوابًا فجلسنا حوله فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا وأنشأ يقول‏:‏ ‏"‏ المديد ‏"‏ يا غريب الدار عن وطنه مفردًا يبكي على شجنه كلما جد البكاء به دبت الأسقام في بدنه ثم أغمي عليه طويلًا ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد ففتح عينيه فسمع تغريده ثم قال‏:‏ ولقد زاد الفؤاد شجًا طائر يبكي على فننه شفه ما شفني فبكى كلنا يبكي على سكنه ثم تنفس تنفسًا فاضت نفسه منه فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه‏.‏

فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه فقال‏:‏ هذا العباس بن الأحنف رحمه الله‏.‏

وذكر أبو علي القالي في ‏"‏ كتاب الأمالي ‏"‏‏:‏ قال بشار بن برد‏:‏ ما زال غلام من بني حنيفة يعني العباس يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال ‏"‏ هذه الأبيات‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينًا لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تعار ومن شعره أيضًا من جملة أبيات وينسبان إلى بشار بن برد أيضًا والله أعلم ‏"‏‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ أبكي الذين أذاقوني مودتهم حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلما قمت منتصبًا بثقل ما حملوني منهم قعدوا وقد خرجنا عن المقصود لطلب الفائدة ونرجع الآن إلى ما نحن بصدده‏.‏

وفيها توفي علي بن حمزة بن عبد الله ‏"‏ بن عثمان ‏"‏ بن بهمن بن فيروز مولى بني أسد أبو الحسن المعروف بالكسائي النحوي المقرىء وسمي بالكسائي لأنه أحرم في كساء‏.‏

وهو معلم الرشيد وفقيهه وبعده لولديه الأمين والمأمون وكان إمامًا في فنون عديدة‏:‏ النحو والعربية وأيام الناس وقرأ القران على حمزة الزيات أربع مرات واختار لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع وتعلم النحو على كبر سنه وخرج إلى البصرة وجالس الخليل بن أحمد‏.‏

وذكر ابن الدورقي قال‏:‏ اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت العشاء فقدموا الكسائي فأرتج عليه ‏"‏ في ‏"‏ قراءة ‏"‏ قل يا أيها الكافرون ‏"‏ فقال اليزيدي‏:‏ قراءة هذه السورة يرتج ‏"‏ فيها ‏"‏ على قارىء أهل الكوفة‏!‏‏.‏

قال‏:‏ فحضرت الصلاة فقدموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد فلما سلم قال‏:‏ ‏"‏ الكامل ‏"‏ احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق وكان الكسائي عند الرشيد بمنزلة رفيعة سار معه إلى الري فمرض ومات بقرية رنبويه ثم مات مع الرشيد محمد بن الحسن الفقية صاحب أبي حنيفة فقال الرشيد لما رجع إلى العراق‏:‏ ‏"‏ اليوم ‏"‏ دفنت الفقه والنحو برنبويه‏.‏

وفيها توفي محمد بن الحسن الفقيه ابن فرقد الشيباني مولاهم الكوفي الفقيه العلامة شيخ الإسلام وأحد العلماء الأعلام مفتي العراقين أب وعبد الله قيل‏:‏ إن أصله من حرستا من غوطة دمشق ومولده بواسط ونشأ بالكوفة وتفقه بأبي يوسف ثم بأبي حنيفة وسمع مسعرًا ومالك بن مغول والأوزاعي ومالك بن أنس وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وهشام بن عبيد الله وعلي بن مسلم الطوسي وخلق سواهم وكان إمامًا فقيهًا محدثًا مجتهدًا ذكيًا انتهت إليه رياسة العلم في زمانه بعد موت أبي يوسف‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ما رأيت أعلم بكتاب الله منه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته وقد حملت عنه وقر بختي كتبًا‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ قلت لأحمد بن حنبل‏:‏ من أين لك هذه المسائل الدقاق قال‏:‏ من كتب محمد بن الحسن‏.‏

وعن الشافعي قال‏:‏ ما ناظرت أحدًا إلا تغير وجهه ما خلا محمد بن الحسن‏.‏

وقال أحمد بن محمد بن أبي رجاء‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ رأيت محمد بن الحسن في النوم فقلت‏:‏ إلام صرت‏.‏

قال‏:‏ غفر لي قلت‏:‏ بم قال‏:‏ قيل لي‏:‏ لم نجعل هذا العلم فيك إلا ونحن نغفر لك‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في ترجمة الكسائي أنهما ماتا في صحبة الرشيد بقرية رنبويه من الري فقال الرشيد‏:‏ دفنت الفقه والعربية بالري‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا واصبعان‏.‏